اوان الرحيل

أَوان ُالرّحيل شعر عيسى مطرود

ودّعْ إذا أزِفَ الرّحيلُ زَمَاني

تِلكَ المَواطِنَ فَامضِ عَن أَوطاني

ارفَع لواءَ البَيْنِ واطْوِ صَحيفتي

الآنَ دقّتْ سَاعةُ الهِجْرانِ

مَا عادَ هذا الدّربُ يجْمعنا مَعاً

آنَ الفِراقُ فَسرْ بِدرْبٍ ثَانِ

واقْطَعْ مِن الآمَالِ كُلّ مُلحّةٍ

تَدْعوكَ أحياناً لكي تلقاني

ارْحَلْ ولا تُفْشي العِتابَ فَلمْ يكُنْ

يُجدي العِتابُ وطَالما أعْيَاني

قُل لِلهَواجِسِ إنْ ترَاهَا أومَأتْ

نحو النّدامةِ أو إلى النُّكْرانِ

مَا الهجْرُ ذَنبْكَ والتَّباعُدُ إنّما

قَدرٌ جَرى بمشيْئةِ الرّحمْنِ

اسْألْ تقاسيمَ الوجُوهِ غَرابةً

مَا بَالهُنّ تَغيّرَ الوجْهانِ

اقْتُلْ ملامِحَ فَوْقَ وجْهِكَ تَدّعي

مُرَّ الفِراقِ ولَوْعةَ النّسْيانِ

ارحَل سَأبَغضُ فيْكَ مَا أحْبَبْتُهُ

لَسْتُ المُحِبَ لجُثةٍ بِلسَانِ

سَاقتْ مقَاديري إليّ غَمامَةً

غَيْثاً حَسِبْتُ غَفلْتُ مَا أشْقَاني

للهِ دَرّكَ في الوِصَالِ وقَطْعهِ

فَالوصْلُ قَطْعٌ أضْحَيا سِيّانِ

مَهْدَ الهَوى قدْ كُنتُ أنقُشُ آمِلاً

وتحَيْك أنتَ نَواعِمَ الأكْفَانِ

مَزّقْ مَواثِيقَ الموَدةِ بيْننَا

ما عُدتَ ترَعى عَهْدهَا بأمَانِ

فبقَدْرِ حُبّكَ بَاتَ بُعْدكَ مُنْيتي

كِلتاهُما في الوَزْنِ رَاجِحتانِ

وبقَدرِ شَوقِكَباتَ غَدرُكَ هاجِسي

مِمّا أتَيتَ تَبرّأ الثّقلانِ

لستَ الذي بالأمسِ أعرفُهُ ولا

هذا التّبدلُ كانَ بالحُسبانِ

الحبُّ وقْفٌ بالوفاءِ دوامهُ

كالنّهرِ ذا وقْفٌ على الجريانِ

ما بالُ تلكَ النفسُ كيفَ تعمّدتْ

بيْعَ الوفاءِ بأبخْسِ الأثمانِ

باتتْ مُفارِقةَ الحياةِ كأنهّا

دارٌ خلتْ من سائرِ السّكانِ

ارحل كفَكَ تعذّراً وتأسفاً

لستَ الغريْبَ بهذهِ الأزمانِ

إني رأيتُ اليومَ عالمنَا وقدْ

أضْحى بِغيرِ مَبادئٍ وكيانِ

مثْلُ القصورِ النّائراتِ تَزينتْ

بالدُّرِ تخُفي هَشةَ الأركانِ

حتى إذا في الرّكنِ ثَارتْ مَرةً

ريحٌ تهاوى كاملُ البنيانِ

كالزرعِ إنْ نَالَ الفناءُ جُذورهُ

يفنى نَضيرُ الزّهرِ والأغصانِ

ارحَلْ رحيْلَ مودعينَ ولا تَقفْ

تَرجو الرُّجوعَ وليسَ بالإمكانِ

سَتظنّ أنْ يَدَ الزّمانِ وصَرفهِ

تَثني العزائمَ بعْدَ طُولِ أوانِ

فَيرُدّ نفَسي عن سوالفِ أمْرِها

وغَداً تعودُ بشوقِها الظّمآنِ

إني لِنفسي والإباءُ يَقودُها

يمُلي عليها الأمْرََكالسُّلطانِ

القلبُ قدْ ولى الزّمامَ لِعقلهِ

جَبلاً عهدتَ وهاهُما جَبلانِ

قَلبي لجمْتُ ومَا عَداهُ جَهِلتهُ

ما كَانَ مِنْ بَعدٍ فَللطوفانِ

لا تَحْتضنْ طَرَفي الجَريحَ تَرجياً

أضحى جليداً دافئَ الأحضانِ

ارحل وَدَعْ عنْكَ الصّداقةَ إنها

عَرفتْ بِلونكِ أسوءَ الألوانِ

أخْشَى فِعالكَ أنْ تُعكرَ صَفْوها

وتُميتَ فيها رَوعةَ الإنسانِ

وهي العشيْقةُ أصبحتْ لعشِيقِها

بعْدَ الهوى فيْضاً منَ الإحسانِ

فيها لِقاءٌ للقلوبِ إذا صَفتْ

يبقى بقَاءَ الصّدقِ والإيمانِ

ارحل فقدْ أزْمَعْتُ صَرْمكَ عازِماً

زَمّ الرّكابِ مُودعاً أحْزاني

مُستوقِفاً دَمعي وفَرْطَ صَبابتي

ذِكرى السّنينِ الغَابراتِ مَكاني

مُستنهِضاً قَيْسَاً وصدقَ وفَائهِ

فَالذئبُ لم يُؤمَنْ على الحِملانِ

كيفَ الهوى قدْ لاحَ لي فتبعتهُ

كيف السّنونَ تبددتْ بِثوانِ

كيف البُحورُ تنكّرتْ لِضفافِها

كيف الورودُ تَبدلتْ بِسنانِ

كيف الرّبُوعُ الزّاهياتُ تصحرتْ

كيف الصّحارى طُوّقتْ بجنانِ

كيف المنَابعُ يحتوين برَاكناً

كيف الأنيْنُ كأعْذبِ الألحانِ

كيف المآقي تسْتبيحُ خِداعَنا

كيف الهوى والغَدرُ يجتمِعانِ

كيف القُشورُ على اللُبابِ تفضّلتْ

كيف الوفا والحبُ يفترقانِ

ارحل فلنْ تنَعى رَحيلكَ أدْمُعي

فيما أُبدّدُ أدمُعَ الأجفانِ؟

ماذا يُباعثُ للحنينِ وللأسى؟

ما ذا يُحركُ سَاكنَ الوجدانِ

ما ذا يداعي للسّماحِ تجَمّلاً

جُملُ السّماحِ تنكرتْ ديواني

ما ذا يُراجعُ في القرارِ فخضْتهُ

آبا الرّجوعَ وما عَهدتُ تُراني

ما ذا يُؤرقُ مضْجعي ويقضّهُ

أيضيْرُ مَيْتاً ضَنْكةٌ بِأرانِ

ما ذا الذي بينَ الضّلوعِ بِخافقٍ

لا شكَّ مِرْدَاةٌ منَ الصّوانِ

ماذا تخالُ بعبرةٍ وبدمعةٍ؟

إنْ كَان صَفْحٌ خابَ ما أقْساني

إنْ كُنتَ تَعهدُني تَرِقُ مشَاعري

فالعهْدُ ولى مَا جَنيتُ كَفاني

ها قدْ أفَاقَ الصُّبحُ بينَ عَوالمي

كمْ كَانَ ليْلٌ بالدُّجى يغْشاني

كمْ مِنْ صُروحٍ قدْ بنيتُ تصَدّعتْ

أضْحتْ رُسوماً ما لُهنّ مَعاني

كَمْ من مَعانٍ في هَواكَ وأدتَها

حبٌ ووجدٌ والرّجا وأمَاني

كمْ من ليَالٍ أقْبلتْ ستَعيْشُها

مُتندّماً عَضّاً بكُلّ بَنانِ

هَذي قَلائدُ منْ لظَاكَ نَظمْتُها

بَيْنَاً تُبيْنُ وذَاك خَيْرُ بَيانِ

في كَاملٍ بَينَ البُحورِ مُتَمّمٍ

تَمّ العَرُوضِ مُقطّعِ الشّطأنِ

بَحرُ القَوافي لا كَبحْرِكَ فَاتّعظْ

للهِ كيفَ تَمازجَ البَحرانِ

ارْحَلْ غَمامَ الوهمِ عَنْ وطني لكَمْ

أغْشَيتَ مِنْ صَاحٍ ومنْ وسْنانِ

ارحَلْ لعَلّ الدّهرَ يُبعِدُني إذا

مَا كَانَ دَهْرٌ مِنكَ قَدْ أدْنَاني

شعر/

عيسى مطرد الجالي