ذات الحـــــذاء البلاستيـــــــكى

الظلام شديد الحلكة هذه الليلة ...حتى أن القمر لم يظهر ليبدد تلك الوحشة التي تسدلها النجوم البعيدة ذات الإضاءة الخافتة تتربع وحدها على عرش السماء متلاءلأة ..
-مازلت تنظرين إلى السماء في هذا الوقت المتأخر من الليل..
التفتت خلفلها لترى وجه ابنتها الصغيرة ذات العشر أعوام ..وآثار جديلتيها الصغيرتين من أثر النوم قد تدليتا على احد عينيها ..
ابتسمت لها ابتسامة ملؤها الحنان وأشارت إليها لكي تأتي لتجلس بجوارها
تابعت بنظراتها خطوات منى المتثاقلة ...بل المتذمرة من أمها حيث استيقظت من نومها فلم تجدها بجوارها...بل وجدتها هنا !
مسحت وجه ابنتها برفق كأنها تريد أن تزيل ذلك النعاس البادي عليها أو ربما ذلك الغضب المنبثق من عينيها ...
عادت سلمى لنظر إلى السماء مجددا ...ترقب تلك النجوم البعيدة وتنتظر ذلك القمر الغائب..
جلستا وحيدتان في شرفة المنزل الذي يوجد في طرف بستان وسيع يظلهما صمت طويل يشاركهما فيه طيور النورس المحلقة على الأشجار ..
نظرت منى لأمها بكل براءة تحاول أن تعرف ما الذي يؤرقها ..
- أمي ...أخبرتنا المعلمة انه عند كل غروب لشمس يحل ملاك لنوم لكل طفل منا ..علينا ان لا نغضبه بل نستجيب له لكي نكون أطفال طيبين ...
أليس لديكم أنتم الكبار ملاك مثله ..؟ ثم نظرت إليها فجأة وكأنها أدركت شيئا مهما... وخطيرا
أمي هل من المعقول انك أغضبته فرحل عنك ؟؟
أدركت سلمى ما يدور في خلد ابنتها من قلق عليها ...فأشفقت عليها
-لا عليك ...لكن يبدو انك أنت من أغضبته ...لم استيقظت في هذا الوقت من الليل ..
-لا أعلم أمي استيقظت وحسب فلم أجدك بجواري ... علمت أنك قد تكونين هنا..
أمي هل لي أن أسالك سؤال؟
-نعم عزيزتي...تفضلي؟
-هل سأكون فتاة صالحة حين أكبر ...أقصد هل أستطيع أن أصبح معلمة مثلا ..أو طبيبة رغم إننا لا نمتلك النقود الكافية ..ويلقبونني الأطفال "بذات الحذاء البلاستيكي "
-بكل تأكيد تستطيعين فأنت فتاة ذكية ستصبحين شيئا رائع في المستقبل ...أرى ذلك كما أراك الآن تماما .. و سأعمل لكي أوفر لك كل شيء

هذا ليس رأيي أنا فقط بل رأي أباك ..منذ كنت في أحشائي كان يرتقب وصولك لهذه الدنيا على فارغ الصبر يعد الأيام يوما تلو الاخر ...وكثيرا ما جلسنا هنا ...وفكرنا بمستقبلك ..فقد كان يتمنى أن تكوني فتاة...
تهللت أسارير منى بكلمات أمها الواعدة لها ...بمستقبل رائع ...واندفعت بحماسة نحوها
-اخبريني أمي عن مستقبلي ..وماذا كان يقول أبي . ماذا سأفعل وكيف سأكون بل كيف سأبدو ..أرجوك أمي هيا هيا...
-"منى ابنتي ستغدو أجمل الفتيات وأكثر هن عقلا ...واتزانا ..وتستصبح متفوقة وتنهني تعليمها الأساسي لتدخل الجامعة .و و و و و..

******
كان علي أن أسطر سيرة أمي بمداد من ذهب فبأحلامها الواعدة لي وتفاؤلها رغم مسحة الحزن التي كانت لا تفارقها مدتني بطاقة غريبة جعلتني استمر في هذه الحياة كما خطط لي...رغم كل الصعاب ...
كنت أتمنى أن تكون أمي بين هذه الجموع الغفيرة في هذا اليوم العظيم الذي أكرم فيه كطبيبة جراحية قامت بإجراء عملية نوعية ..لتشهد معي تحقق أحلامنا التي كنا ننسجها معا على ضوء تلك النجوم الخافتة في ذلك البيت الصغير لكن حسبي أن أنفاسها الطاهرة تملأ المكان ونفسها الآن راضية عني..
ضج المكان بالتصفيق الحار لتلك الطبيبة الواعدة ...وذرفت العيون تلك الأم الطيبة .. إلا أنها عادت مجددا للحديث ..فرجع للمكان هدوئه
- تعلمت من أمي شيء أخر ...علمتني معنى للإخلاص انتظرت والدي الغائب عشرون من الأعوام على أمل عودته ..فقد وعدها هو بذلك حين غادر المنزل ذات مساء مهاجرا لكي يؤمن لنا حياة كريمة في بلاد بعيدة ...
فكانت تقولي لي دائما أن المحب إذا وعد لا يخلف وعده وأوصتني أيضا بانتظاره ...
غالبتها الدموع قليلا لكنها استمرت :
-أردت أن أقول ثقوا بأبنائكم دائما وكونوا بجوارهم لتحصدوا الثمار معا

تم بحمد الله